![]() |
فتح القسطنطينية |
فتح القسطنطينية بشارة نبوية، الحمد لله حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين والمبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعدُ:
فتح القسطنطينية بشارة نبوية الفتح الأول
فتح القسطنطينية هي بشارة نبوية. بشرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل قرون من الزمان حيث قال: "لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش".
فإن الله سبحانه وتعالى يكشف لرسوله صلى الله عليه وسلم من حجُب الغيب ليرى بعين البصر والبصيرة ما لا يراه غيره، فيخبر أمته من أعلام نبوته من أنباء الغيب ما يُوحى الله به إليه عندما تكون الأمة فى أشد الحاجة إلى ذلك، ومن هذا الغيب ما أخبر به صلى الله عليه وسلم يوم الخندق فى غزوة الأحزاب.
وفى تلك الأثناء يُبشر النبي أصحابه بفتح الشام واليمن وفارس، ويقسم بالله أنه يرى أمامه قصور الشام الحمر وأبواب صنعاء ومدائن كسرى، نعم يراها من مكانه وهو فى عمق الخندق يكسر صخرات استعصت على الصحابة، ذلك ليزداد الذين آمنوا إيمانا ويقولوا صدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً، وليقول الذين فى قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا.
ومن علوم الغيب التى بشر بها النبي أمته فتح القسطنطينية، وقد أخبر بذلك حين سُئل أى المدينتين يُفتح أولا قسطنطينية أو رومية، فقال صلى الله عليه وسلم :"مدينة هرقل تفتح أولا" يعنى قسطنطينية.
والحديث رواه أحمد والدارمي وابن أبي شيبة، وأورده العلامة الألبانى فى السلسة الصحيحة برقم (4)، وعلق عليه قائلا: "وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثمانى، كما هو معروف، وذلك بعد أكثر من ثمانمائة سنه من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وسيتحقق الفتح الثانى بإذن الله تعالى ولابد ولتعلمن نبأه بعد حين".
ونحن اليوم بعون الله نتحدث عن الفتح الأول الذى تحقق فعلا فى يوم الثلاثاء العشرين من جمادى الأول عام سبعة وخمسين وثمانمائة من الهجرة الموافق 22/4/1453 ميلاديا.
وذلك الفتح الذى بشر به النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله:" لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ، ولنعم الجيش ذلك الجيش ". (رواه أحمد، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمى: رجاله ثقات).
ذلك الفتح الذى اشر إليه أعناق بنى أمية وسير إليها بنو أمية الجيوش، ومات الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصارى، ودفن تحت أسوار القسطنطينية، فما استطاع بنو أمية فتحها، وكذلك تأبت على بنى العباس، ولعل الله سبحانه ادَخر هذا الفتح لبنى عثمان.
ولهذا القائد الفتى الشاب الذى لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، وهو يقود أكبر دولة فى العالم فى ذلك الوقت، الدولة العثمانية الإسلامية الكبرى محمد بن مراد العثماني، والذى لُقب بعد ذلك ب محمد الفاتح، وكُني بأبي الفتح، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وسنحاول بعون الله أن نعيش فى أجواء هذا الفتح فى ذكراه بما ييسره الله لنا كما يلي:
أولا: أهمية القسطنطينية ومكانتها
هى عاصمة الدولة الرومانية خلال الفترة من 335-395 ميلادية، وعاصمة الدولة البيزنطية من 395-1453 حين فتحها المسلمون وسماها المسلمون حينها إسلام بول أو الآستانة وصارت عاصمة الدولة العثمانية، وهى الآن المعروفة بإسطنبول. كانت قبل فتحها العاصمة المقدسة الكبرى لنصارى الشرق، وفيها أكثر تراثهم، وقد حوت كنائسها تماثيل أشهر رهبانهم وبطارقتهم، وموقعها بين آسيا وأوروبا جعلها من أفضل المدن موقعاً.
حتى قيل: لو كانت الدنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أفضل المدن تكون عاصمة لها، وقد امتنعت عبر العصور ببحارها المحيطة بها من ثلاثة جوانب وخنادقها المنيعة وتحصنت بحصونها العالية وقلاعها المتعددة. وقيل: إنها وحدها تساوى إمبراطورية كاملة وإنها مفتاح العالم.
ثانيا : محمدالفاتح وإعداده الإعداد المناسب
تذكر كتب التاريخ والسير أن محمد الفاتح حظى بتربية عملية ودينبية وجسدية منذ نعومة أظفاره، فقد اهتم والده السلطان مراد الثانى بتدريبه على الفروسية منذ طفولته، فدربه على ركوب الخيل والرمى والمبارزة، وجعله يتربي على خيرة العلماء فى عصره.
ومنهم أحمد بن إسماعيل الكورانى، الذى قال عنه السيوطى:
"إنه كان عالما فقهيا شهد له علماء عصره بالتفوق والإتقان، بل إنهم كانوا يسمونه أبا حنيفة زمانه، وقد حفظ محمد الفاتح القرآن وهو صغير، ودرس التاريخ الإسلامى وأسهمت تربيته فى تنشئته على حب الإسلام والعمل بالقرآن وحب العلم وتقدير العلماء. وقد تأثر الفاتح كذلك بالشيخ آمد شمس الدين سنقر، الذى كان أول من زرع حلم "فتح القسطنطينية".
فى ذهن الفاتح وقلبه حتى كبر الفتى وهو يصبو إلى تحقيق ذلك الحلم، وما إن تولى محمد الثانى مهام السلطنة خلفا لوالده مراد الثانى، حتى وضع فتح القسطنطينية نصب عينيه.
ثالثا: كيف أصبح فتح القسطنطينية ضرورة
لما اتسعت رقعة الدولة العثمانية شرقا وغربا، كانت القسطنطينية فى وسطها تفصل ممالكها الغربية عن ممالكها الشرقية، ولذا حاول خلفاء بنى عثمان فتحها أكثر من مرة، وكان ملوكها ورهبانها يكيدون للدولة العثمانية. ويدسون الدسائس ويدبرون المكائد، يمدون كل خارج على الدولة العثمانية ويمدونه بالسلاح والمال والرجال، فاجتمعت هذه الأسباب.
بالإضافة إلى، السبب الأساس الذى يراود السلطان الشاب دائما ويهفو إلى تحقيقه، فلما تولى عرش السلطنة محمد بن مراد. بعد وفاة والده جعل رأس اهتمامه فتح تلك المدينة، فأشغل فكره بها وكرس جهده لها سياسيا وعسكريا.
رابعا: الأسباب السياسية والعسكرية التى قام بها محمد الفاتح
- بنى قلعة جبارة قبالتها.
- صالح الدول المجاورة لها حتى لا تهب بنجدتها.
- عقد هدنة مع كل محاربيه ليتفرغ لها.
- بنى المدافع العملاقة لدك حصونها.
- استحدث أساطيل برية ليغزوها من البر والبحر.
ثم درس أسوارها من الداخل والخارج وأوضاعها وأوضاع أهلها هذا بالإضافة إلى، الإعداد النفسي والعسكرى للجنود والذى سنراه فى سير الأحداث.
خامسا: سير أحداث فتح القسطنطينية
توالت الأحداث كما يلى:
1- لما رأى قسطنطين الخطوات الجادة لمحمد الفاتح تجاه فتح المدينة أرسل إلى السلطان يطلب الصلح.
فطالبه السلطان بتسليمها بلاقتال، وله ولأهلها الأمن والأمان والعيش فيها أو غيرها بسلام لكن الملك قسطنطين رفض هذا العرض، فعزم السلطان الفاتح على فتحها، وسار بجيش يقارب مائة وستين ألف مقاتل معهم خيولهم وعتادهم فضربوا الحصار على المدينة. وبداخلها ثمانمائة ألف نفس، منهم أربعون ألف مقاتل قد اصطفوا على أسوارها لحمايتها، واستمر الحصار ثلاثا وخمسين ليلة، وكانت مدافع المسلمين تدك أسوار القسطنطينية باستمرار.
بينما كان النصارى يستميتون فى الدفاع عن مدينتهم ويفشلون محاولات المسلمين بكثير من الإصرار وبرغم ما قام به الملك قسطنطين من قتل مائتين من المسلمين المقيمين بالقسطنطينية. وتعلقيهم على أعواد المشانق حول أسوار المدينة، إلا أن كل ذلك لم يثن عزيمة المسلمين عما عزموا عليه.
2- ومع طول الحصار بدأت المؤنة تنفيذ من المدينة، وأخذ أهلها الجهد والتعب من هذا الحصار المحكم، وعزم السلطان على الاقتحام العام. لما أحس أن الوقت قد حان، فأرسل الى قسطنطين يطالبه بالتسليم قبل الهجوم العام وله وللنصارى معه الأمن على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم وديارهم، ومن أراد منهم الرحيل منها رحل، ومن أراد البقاء بقى فيها آمنا.
3- موقف الملك قسطنطين:
كان قسطنطين ملكا شجاعا متدينا يعلم ما لهذه المدينة من تاريخ وتقديس عند النصارى، فآثر أن يموت فيها على أن يهرب منها أو يسلمها للمسلمين.
فرد على السلطان قائلاً: إنه أقسم أن يدافع عنها إلى آخر نفس فى حياته، فإما أن يحتفظ بعرشها، أو يدفن تحت أسوارها. فلما بلغ السلطان مقالة قسطنطين ازداد إصرارا وعزما، وقال: حتما عما قريب سيكون لى فى القسطنطينية عرش، أو يكون لى فيها قبر.
4- الإستعداد للهجوم العام:
وقبل الهجوم العام بيومين وكان يو أحد، أمر السلطان جنده بالصيام لله تعالى تطهيرا للنفوس، وتقوية للعزم والإرادة، وفى مساء ذلك اليوم أمر جنده بإضرام النيران العظيمة، ليرهب النصارى. وظل المسلمون طيلة الليل يذكرون الله تعالى ويكبرون بأصوات عالية، وصارت أصواتهم تتصاعد إلى السماء: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وفى يوم الإثنين ترك السلطان جنودة يرتاحون وبدأ يخطط للهجوم، ثم عبأ جنوده فى ليلة الثلاثاء وأمر العلماء والمشايخ والخطباء أن يحشدوا الجند للقتال. ويذكروهم بفضل الجهاد وفضل الشهادة فى سبيل الله، وخطب فيهم السلطان خطبة ذكرهم فيها بفضل هذا الفتح على وجه الخصوص.
وسيكون من حظ الجند ما أشاد به النبي صلي الله عليه وسلم على أصحاب هذا الفتح وتتحقق فيهم إحدى معجزاته، وسيساهم هذا الفتح فى نشر الإسلام بين الناس، وحذرهم من أن يصدر منهم أمراً ما يخالف تعاليم الإسلام ويجتنبوا الكنائس والمعابد فلا يمسوها بسوء. وكذلك يتركوا القسس والضعفاء والذين لا يقاتلون، وفى مقابل ذلك دقت أجراس الكنائس واجتمع النصارى وخطب فيهم الملك قسطنطين وذكرهم بأمجادهم وأمجاد آبائهم. وطلب منهم الثبات والدفاع عن مدينتهم التى هى ملكة المدن، ثم أعلن أنه سيدافع حتى الموت.
5- الهجوم العام والفتح العظيم:
وفى الليلة الموعودة ليلة الثلاثاء وقبل منتصف الليل ننزل من السماء مطر خفيف، وفى الساعات الأولى من الصباح التقي الجيشان وتصاعدت التكبيرات مدوية مجلجلة من البر والبحر وانطلق المسلمون يتسلقون الأسوار والمدافع تضرب وحنى الوطيس واستمرت المدافع ساعات تدوى وتتحرك السفن فى البحر. والقتال على أشدة فى البحر والبر، فما برح قسطنطين حتى رأى أعلام المسلمين ترفرف على قلاع القسطنطينية وأسوارها وجنوده تفر من أمام المسلمين. فأخذ يقاتل ذات اليمين وذات الشمال، حتى خر صريعا من ضربة من أحد المسلمين المقاتلين وقضي الأمر.
وهكذا أتم الله نصره وفتحه على عبد من عباده الصالحين، ودانت له المدينه التى استعصت على غيره، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، فتحت القسطنطينية بشارة نبوية.
سادسا: ماذا بعد فتح القسطنطينية
خاف النصارى من سكان المدينة وفزعوا فى أول الأمر، لأنهم ظنوا أن يفعل بهم المسلمون مثل الذى فعله بهم الصليبيون لما دخلوا القسطنطينية فى الحملة الصليبية الرابعة. إذ استباحوا الحرمات وأمعنوا فى قتل الناس ونهب الأموال وهتك الأعراض، وقالوا فى أنفسهم هذا ما فعله بنا من هم على ديننا مع اختلاف المذاهب، فكيف بمن يخالفوننا فى الدين.
يقصدون المسلمين ولكن حدث خلاف ما توقعه النصارى، إذ توجه السلطان الفاتح عند الظهيرة على ظهر جواده يحف به كبار قادته وهنأ جنده بالنصر. ونهاهم عن القتل والسلب وأوصاهم بأن يكونوا أهلا لهذا الشرف والمجد بأخلاقهم الكريمة، فلما توسط المدينة نزل عن جواده واستقبل القبلة، وسجد لله شكرا وتواضعا لله على توفيقه.
قم أعلن الأمن والأمان لجميع النصارى وأمرهم بالعودة إلى بيوتهم فى أمن وأمان، والعودة إلى أعمالهم دون خوف على أنفسهم أو أعراضهم وأموالهم. فنزل هذا التأمين بردا وسلاما عليهم وأمر بمداواة الجرحي من النصارى ودفن الموتى، ودفن قسطنطين فى مقبرة الملوك.
وقد قال المؤرخون: إن السلطان الفاتح قد حنً على أهل القسطنطينية حنو الوالد المشفق على ولده.
يمكنك الاطلاع على:
إرسال تعليق